التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رحلة نحو التغيير



من منا لم يشعر في مرحلة من مراحل حياته برغبة شديدة في التغيير؟ سواء تعلق الأمر بمظهره الخارجي، عاداته، مكان عيشه، تخصصه الجامعي أو غيرها من الأمور. والنقطة التي أريد التطرق إليها هي تغيير المسار المهني، فكل إنسان يبحث عن مجال عمل يمكنه من قضاء حياته في سعادة وهناء، لا يتعلق الأمر بالسعادة والرفاهية المادية فقط، لكن ما أقصده هنا هو السلام الداخلي والاتزان النفسي. فإذا لاحظنا نسبة الناس الذين يعانون الأمرين بسبب عملهم، سنجد أن عددهم لا يعد ولا يحصى. وهذا راجع لأسباب مختلفة، كالملل والرتابة، أو بسبب طبيعة العمل بحد ذاته والتي لا تلائم شخصيتهم وأهدافهم...فتجد الشخص يقضي ثلث يومه في ضغط وتوتر، منتظرا بفارغ الصبر لحظة عودته لمنزله مفرغ الطاقة، ومرهق الأعصاب. ومع مرور الوقت يبدأ بطرح عدة تساؤلات على نفسه: هل اخترت العمل الخطأ؟ لماذا توجهت لهذا التخصص بالذات؟ هل يجب أن أغير مساري المهني؟ لكن ما هو المجال المناسب لي؟ أم يتوجب على الانطلاق من نقطة الصفر وتأسيس مشروعي الخاص؟ وأسئلة أخرى عديدة تشغل باله وتفكيره. وعندما يصل المرء إلى هذه المرحلة، يجب عليه الإصغاء بتمعن إلى صوته الداخلي وعدم الفرار منه وتفاديه. إذ أن الشعور بالضياع والحيرة، وفقدان الراحة والطمأنينة، يعد بمثابة صفارة الإنذار، التي يجب فهم معانيها الخفية وتحليل أبعادها، حتى يتمكن الفرد من الوصول لحل يرشده إلى طريق الصواب.
فالإنسان لا يمتلك سوى حياة واحدة فقط، ومن حقه أن يعيشها بالطريقة التي تريحه وتناسبه فكريا، نفسيا وجسديا. وهذا يتحقق عبر تبني ثقافة الانصات والتواصل مع الذات في كل لحظة وثانية من حياتنا، وفي مختلف جوانبها. ومن أهمها الجانب المهني، الذي يعتبر عاملا أساسيا حتى يتمكن الفرد من تحقيق استقلاله، واثبات كيانه وفعاليته في المجتمع.
إذن قبل اتخاذ أي قرار، يجب أن يمنح الشخص نفسه وقتا للتفكير دون الانسياب مع تيار الضغوطات والتوتر والشحنات السلبية، خاصة تلك التي يتلقاها من محيط عيشه. لان العديد من الناس لن يتفهموا حالة الضياع وفقدان التوازن التي يمر بها الفرد. فمن وجهة نظرهم، هو ينعم بحياة مثالية، مكتملة المعايير لا تتطلب أي تعديل.
فرحلة التغيير، رحلة فردية تخص علاقة الانسان بذاته، فهي تساعده على استرجاع حلقة الوصل مع نفسه وإعادة اكتشافها من جديد في أي مرحلة من حياة الانسان، لأن التغيير لا يتعلق بسن أو عمر معين. فعلى سبيل المثال، قد نجد أشخاصا في الأربعين أو الخمسين من عمرهم وبعد مشوار مهني حافل، أحسوا بفقدان الرغبة في الاستمرار في هذا المجال، لأن رؤيتهم للحياة تغيرت، أو لأن هدفهم لم يعد واضحا وأرادوا منح طعم جديد لحياتهم فوجدوا أن التغيير والتجديد هو طريق الخلاص من هذه المتاهة التي يعيشونها. لكن ذلك الرقم المرتبط "بمدة تواجدهم على الكرة الأرضية " يشكل لهم خوفا وقلقا وأحيانا وصمة عار، لأن مجتمعاتنا للأسف الشديد حددت صلاحية المرء في سن معين، سن للزواج و آ خر للعمل ...وهذه بكل بساطة نظرة في منتهى الرجعية، فما دام الانسان حيا يرزق ولم تصل ساعة فنائه بعد، ما زال بإمكانه تطوير ذاته وتعلم و اكتساب مهارات جديدة، و انتاج أشياء عديدة ليشاطرها مع العالم بأكمله.
لذلك يجب على المرء أن يتخلص من دائرة العلاقات السلبية المحيطة به، وأن يركز على أولوياته والأشياء المهمة والتي تحمل معنى وهدفا عميقا في حياته. هذا لا يعني أن ينعزل تماما عن الناس، لكن فلتكن علاقاته ذات قيمة مع أناس يلهمونه ويحفزونه على إحراز تغيير إيجابي. فالعلاقات الإنسانية لها تأثير كبير على الفرد، فقد تكسبه عادات إيجابية خيرة وقد يكون التأثير ذا مفعول عكسي. و هذا ما يجعل الرفقة الصالحة أمرا مهما و نقطة فارقة في حياة الفرد و خاصة في مرحلة التغيير، فهي تساعده على اتخاذ قرارات صائبة و المضي قدما في حياته بخطوات ثابتة.
وما يفيد الفرد أيضا، هو التعرف على شغفه، ميوله ومواهبه. وهنا نعود لأهمية التواصل مع الذات والتعرف عليها بعمق ودقة. فالمواهب لا تتعلق فقط بالرسم، الكتابة أو العزف ...فهناك من يتمتع بملكة الاستماع للأخرين واستيعابهم، وهنالك من يتمكن من تحليل أعقد المشاكل وإيجاد حلول خلاقة لها، ونجد أناسا لهم القدرة على الالقاء والاقناع بشكل خيالي، وغيرها من الملكات التي تختلف من شخص لآخر. وحتى يكتشف المرء موهبته، يجب عليه أن يركز على الأفعال والسلوكيات التي تصدر منه بشكل تلقائي، ويمكن الاستعانة بآراء الاخرين في هذا الموضوع فملاحظاتهم قد تكون ذات نفع كبير.
فمعرفة المواهب والملكات الفردية، قد تسهل مسألة اختيار المسار الذي يمكن للفرد امتهانه والتطور فيه ومن ثم تحويل شغفه إلى مصدر رزق، فعندما يجتمع الشغف والعمل تكون النتيجة مثمرة ومليئة بالابتكار، التميز والعطاء. حتى لو كان الأمر متعبا في بادئ الأمر إلا أن المتعة النفسية تهون أمامها جميع الآلام.  
وبالإضافة إلى الشغف، الميول والمواهب، يجب الرجوع الى أرشيف المسار الدراسي والتجارب المهنية السابقة وتحليلها بدقة بدءا من الأسباب التي دفعت الفرد لاختيار تخصصه، نسبة رضاه عن هذا الاختيار، الاشياء التي اكتسبها ومن ثم يصل إلى تحديد نقاط قوته والمهارات التي تميزه، ومن جهة أخرى ما هي الأشياء التي كان يجد صعوبة كبيرة في القيام بها والمهمات الغير محببة لديه، إضافة الى نقاط ضعفه والأمور التي لا يتقنها بتاتا.

هذا التحليل الدقيق , يمكن كل شخص من التعرف على الأسباب التي دفعته لخوض رحلة التغيير ، و عملية المقارنة بين نقاط القوة و نقاط الضعف ، تقرب إليه الصورة و توضحها حتى يتمكن من معرفة المجال الأكثر ملاءمة له و لشخصيته و مهاراته. و بذلك تكون الخطوة الموالية , خطوة موفقة و ناجحة لان الاختيار يكون مبنيا على أسس عقلانية و أخرى روحية و نفسية مكملة بعضها البعض  ، تحقيقا للسلام الداخلي و التوازن الذي يطمح إليه كل امرئ في هذه الحياة .
بثينة البحديدي 
Boutaina El Bohdidi

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرهاب الاجتماعي

يعد الرهاب الاجتماعي أو ما يطلق عليه بالقلق الاجتماعي، من أكثر الاضطرابات النفسية انتشارا في العالم. فالعديد من الناس يخوضون معارك يومية مع هذا المرض، دون أن يدركوا ماهيته وحقيقته. وهنالك من يخلط بينه وبين الخجل المفرط أو التوتر العابر. لكن ما هو التعريف الحقيقي للرهاب الاجتماعي وما هي الأعراض التي تمكننا من اكتشافه وتشخيصه؟ الرهاب الاجتماعي، هو مرض نفسي ينتج عنه هالة من القلق والخوف اللذان يتملكان كيان الإنسان  ويسيطران على عقله. وهذا ينعكس تلقائيا على سلوكه وتصرفاته خاصة في المواقف التي تجعل منه محط أنظار الناس وعرضة لتقييمهم وانتقاداتهم. لذلك نجد المصابين بالرهاب الاجتماعي، يتفادون بشكل دائم اللقاءات والتجمعات التي تجعلهم في احتكاك مباشر مع الاخرين. متجنبين أيضا التعبير عن آرائهم وخوض نقاشات أو أحاديث معهم، وإن وضعوا في موقف يتطلب منهم الكلام أمام الناس، انعكس القلق والتوتر على أسلوبهم التعبيري. فتصبح لديهم صعوبة في التعبير بطلاقة والتحدث بطريقة واضحة، حتى أن وتيرة الكلام لديهم تصبح سريعة جدا وغير مفهومة. وتظهر على أصحاب الرهاب الاجتماعي أعراض أخرى على المستوى ال

دوامة الأعذار

الأعذار! تلك المتاهة التي يلجأ إليها المرء بمحض إرادته، يوم يقرر بقناعة تامة، أنه ضعيف وغير قادر على مجابهة نظرات المجتمع له، أو الحد من تطاول ألسنة الناس اللادغة التي تخنقه بكلمات السخرية والاستهزاء، بسبب تجربة فشل صادفت دربه أو التشفي من جرح علم حياته في لحظة من لحظات ماضيه. فالثغرات الموجودة في شخصيته وانعدام تقديره لذاته، جعلاه منكسرا أمام مجتمع انعدمت فيه الرحمة والرأفة بحال الغير. فيبقى ملاذه الوحيد هو الأعذار، التي يتخذ منها حصنا لحمايته من رماح كلام الناس القاتل، أو لعله يكون سبيلا لتليين قلوبهم وكسب تعاطفهم، حتى يقوموا بالتغاضي عن حاله، وتركه ودوامة أعذاره بسلام. لكن شعور السلام الداخلي هذا، لا يطول استشعاره ممن يحتمي تحت ظلال الأعذار، ففي بادئ الأمر ينعم بطمأنينة وسكينة تريح خاطره، لكن بعد ذلك تتحول هذه المشاعر إلى فرامل تحول بينه وبين تطوير ذاته، وخروجه من منطقة الراحة الوهمية.   فالحياة ليست جنة نعيم، بل هي لعبة مليئة بالمفاجآت والتحديات الصعبة التي لا يتحمل قساوتها أصحاب النفوس الهشة. فهي تتطلب قوة تحمل وحكمة تجعل من تجارب الماضي مهارة تزكي حاضر المرء ومست

أزمة ربيع العمر

          في عصرنا هذا أضحى العديد من الشباب في فترة العشرينات والثلاثينات من عمرهم يعانون من اضطرابات وأمراض نفسية متعددة. وذلك نتيجة الضغوطات التي يفرضها  المجتمع عبر سنه خطا معينا وجب على أي شاب إتباعه. ألا وهو ولوج جامعة عريقة يليه الحصول على شهادة عليا ومن ثم تحصيل وظيفة ذات راتب مهم يؤمن له معايير العيش الهني. وأخيرا الانتقال الى مرحلة تأسيس عش الزوجية الذهبي وإنجاب أطفال يترعرعون وفق نفس الأفكار ومنهجية العيش الرتيبة التي فرضها مجتمع لم يعطي أهمية لقيمة المرء وجوهره، مما أدى الى تدمير كيان عدد كبير من الشباب وتحطيم ثقته بنفسه وقدراته وذلك بسبب المقارنة بالغير وإهانة تفرده واختلافه الخلاق الذي يميزه عن محيطه علما أن أكثر ما يدمر الانسان هو التقليل من قدراته وتحقير قيمته ووضعه دائما محط مقارنة تقلل من شأنه وقدره. ولكي يتمكن المرء من تخطي مجموع الأفكار السلبية والبرمجة المسبقة التي ترسخت في ذهنه والمضي قدما في حياته لتحقيق ما يطمح إليه وجب عليه إدراك قدراته الخفية الكامنة بداخله. فكل إنسان يملك هبة دفينة بداخله تنتظر اللحظة التي يتخذ فيها القرار لإيقاظها والوعي لأهميتها و