التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الرهاب الاجتماعي


يعد الرهاب الاجتماعي أو ما يطلق عليه بالقلق الاجتماعي، من أكثر الاضطرابات النفسية انتشارا في العالم. فالعديد من الناس يخوضون معارك يومية مع هذا المرض، دون أن يدركوا ماهيته وحقيقته. وهنالك من يخلط بينه وبين الخجل المفرط أو التوتر العابر.
لكن ما هو التعريف الحقيقي للرهاب الاجتماعي وما هي الأعراض التي تمكننا من اكتشافه وتشخيصه؟
الرهاب الاجتماعي، هو مرض نفسي ينتج عنه هالة من القلق والخوف اللذان يتملكان كيان الإنسان  ويسيطران على عقله. وهذا ينعكس تلقائيا على سلوكه وتصرفاته خاصة في المواقف التي تجعل منه محط أنظار الناس وعرضة لتقييمهم وانتقاداتهم.
لذلك نجد المصابين بالرهاب الاجتماعي، يتفادون بشكل دائم اللقاءات والتجمعات التي تجعلهم في احتكاك مباشر مع الاخرين. متجنبين أيضا التعبير عن آرائهم وخوض نقاشات أو أحاديث معهم، وإن وضعوا في موقف يتطلب منهم الكلام أمام الناس، انعكس القلق والتوتر على أسلوبهم التعبيري. فتصبح لديهم صعوبة في التعبير بطلاقة والتحدث بطريقة واضحة، حتى أن وتيرة الكلام لديهم تصبح سريعة جدا وغير مفهومة.
وتظهر على أصحاب الرهاب الاجتماعي أعراض أخرى على المستوى الجسدي، فتجدهم يعانون من تشنجات في بدنهم مرفقة باهتزازات على مستوى الأطراف خاصة اليدين، فيصبح من الصعب التحكم بهما. إضافة الى شدة التعرق والاحمرار. فكلما ازداد الموقف الذي وضع فيه مصاب الرهاب الاجتماعي صعوبة، ارتفعت لديه نسبة القلق، مما ينتج عنه شعور بالضيق يؤدي أحيانا الى عسر في التنفس وتسارع في نبضات القلب. وقد تدخله هذه الحالة في أزمات من الخوف والهلع والبكاء الهستيري تفقده السيطرة على أعصابه  والتحكم في ذاته. وهذا ما يدفع بمريض الرهاب أحيانا الى التصرف بغضب وعدوانية مع الآخرين ، وقد يقوم أيضا بردود أفعال  لاعقلانية بسبب الضغط النفسي والجسدي الذي يمر به، وذلك قصد تخليص نفسه من أسر هذه الحالة الخانقة.
إن الوقوع في شباك الرهاب الاجتماعي ناتج عن أسباب كثيرة. فشخصية المصاب بالرهاب تكون بمثابة أرض خصبة مهيأة لاستقطاب مثل هذه الاضطرابات، فتجده يعاني منذ طفولته من الخجل المفرط والانطوائية.
وكما نعلم أن محيط نشأة الفرد يلعب دورا هاما ومؤثرا في بناء شخصيته وكيانه. فعندما يترعرع الإنسان في وسط يحط من شأنه وقيمته ويهز ثقته بنفسه وقدراته، تزرع الأفكار السلبية التي يتلقاها،  سمها في شخصيته، فتهتز ثقته بنفسه ويضعف حضوره في المجتمع. فيصبح الفرد كالطائر الذي قصت اجنحته فلم يعد قادرا على الرفرفة في سماء الحياة.
وعندما نتحدث عن محيط النشأة، لا نعني به الوسط العائلي فقط، بل تقع المسؤولية أيضا على الوسط المدرسي. فالتقليل من شأن المتعلم داخل المؤسسة التعليمية، وتحسيسه بالدونية ومقارنته المستمرة بزملائه بطريقة جارحة، تنتقص من قيمته وتثبت بداخله القناعة التامة على انه لا يرتقي للمستوى المطلوب. وهذا ينتج عنه انسان فاقد لثقته بنفسه غير مؤمن بقدراته الذاتية مما يعيق اندماجه في مجتمعه ومحيطه الخارجي، متفاديا جميع التجارب الجديدة في الحياة ومختلف المواقف الخارجة عن نطاق مساحة الأمان التي صنعها لنفسه بعيدا عن الناس وعن احكامهم.
فالحوادث والصدمات التي يتعرض لها الإنسان، خاصة في مرحلة الطفولة والمراهقة تنتج عنها عقد واضطرابات نفسية ترافقه مدى الحياة. إلى أن  يقرر بنفسه كسر سلاسل هذا المرض أو الاضطراب الذي يقيده ويعيق تطوره وتطويره لذاته.
فرحلة العلاج من الرهاب الاجتماعي، تتطلب كسائر الامراض النفسية تدخل الأخصائيين  الذين يقومون بمساعدة وتوجيه المريض توجيها سليما يسهل عليه مراحل العلاج والتغيير.
لكن حتى يكون العلاج فعالا، يجب على الفرد أن يعي خطورة هذا الاضطراب النفسي على حياته، وأن  يدرك أهمية وضرورة تغيير أسلوب تعامله ورؤيته للرهاب حتى يتمكن من التخلص من آثاره  بشكل نهائي.
وأهم خطوة هي تعرف المصاب بالرهاب الاجتماعي على أصل مخاوفه والأسباب التي تزيد من حدة قلقه وتوتره ووقوعه في أزمة هلع مرضي. فتعرف المرء على مخاوفه يساعده على مواجهتها، كسرها ومن ثم تخطيها.
ومن المهم أيضا أن يغير الإنسان  نظرته وتعامله مع حالة الخوف والقلق التي تنتابه. فالجميع وبدون استثناء معرض للشعور بالخوف وهذا أمر طبيعي. فعلى سبيل المثال، إقدام  طالب جامعي حديث التخرج، على إجراء مقابلة عمل لأول مرة في حياته، لا بد ان يشعره بنوع من التوتر والقلق الناتجين عن كون هذه المقابلة تمثل للطالب تجربة جديدة، نتائجها مجهولة. وهذا ما يضعه تحت ضغط نفسي يولد لديه خوفا عابرا.
وكما ذكرنا من قبل أن المصاب بالرهاب يكون فاقدا لثقته بنفسه وبقدراته الذاتية. وحتى يتمكن من استرجاعها يجب عليه ان يشرع في تحديد مجموعة من الأهداف القابلة للتحقيق وأن يخطو صوب تحقيقها تدريجيا. دون ان يحمل نفسه فوق طاقتها، أو أن  يضعها تحت ضغط يصعب من حالته النفسية. فالهدف من هذه العملية بأكملها هو استرجاع الفرد إيمانه  بنفسه وتعزيز تقديره لذاته، مما سيقلل بالتدريج شعوره بالتوتر والقلق مهما كانت طبيعة التحديات التي يتعامل معها. وستؤدي هذه الخطوات مع الوقت إلى، تحطيم جدران وحدته وعزلته عن العالم الخارجي. ومن الأمور التي تفيد مريض الرهاب الاجتماعي، البدء في التردد على أماكن عامة، يتمكن من خلالها من لقاء الناس والاحتكاك بهم والتواصل معهم. وطبعا هذه المرحلة تتطلب التأني والقيام بخطوات تدريجية، فالخطوة الأولى تكمن في جعل زياراته للفضاءات العمومية كالحدائق العامة، أو المكتبات أو أي فضاء يحبذه، عادة يومية لديه. ومع مرور الوقت ستترسخ لديه هذه العادة وتساعده على تحطيم شتى العراقيل التي تحول بينه وبين محيطه الخارجي.
أما الخطوة الموالية فهي خلق تواصل مع الغير. قد يبدأ الأمر بإلقاء السلام وهكذا إلى أن يسترجع مصاب الرهاب ثقته بنفسه فيصبح قادرا على إدارة حوار مع الاخرين وفتح نقاشات معهم بكل أريحية. وفي حالة ما بدأ المريض باستشعارأعراض الخوف والقلق، يجب عليه في هذه الحالة تشتيت انتباهه وتركيزه بعيدا عن هذه الأحاسيس السلبية، وذلك يتم عبر محاولته التركيز والتأمل في تفاصيل الوسط المحيط به مثل السماء، الأشجار أو غيرها. فهذه العملية تساعد على كسر سلسلة الأفكار السلبية التي تراوده. أما الأمر الآخر الذي يساعد مريض الرهاب في التحسن وهو استحضار مميزاته ومزاياه وتكرارها باستمرار. فهذه الطريقة تجعله يستشعر قدراته الذاتية ويؤمن بها. وحتى تكون هذه العملية أكثر فعالية وجب عليه تفادي مقارنته بالغير فكل إنسان متميز بشكل مختلف عن الآخر  لذلك من المهم جدا ان يدرك الإنسان  قيمة نفسه، وأن  لا يضغط عليها بغرض اثبات قدراته للآخرين. فإرضاء الغير غاية صعبة المنال. ولا ننسى أن  تطوير الفرد لذاته يكون باكتشاف  ميولاته والمجالات التي تستهويه. ومن المحبذ أن يمارس أصحاب  الرهاب الأنشطة المفضلة لديهم فنية كانت او إجتماعية  أو  غيرها من الأنشطة، ضمن مجموعة تشاركهم نفس الشغف، فهذه الخطوة تساعد على تقوية الشخصية وتخطي العزلة وخلق علاقات مع أناس يشاطرونهم نفس الاهتمامات. ومن بين الأنشطة التي تساعد على التخلص من الرهاب الاجتماعي: المسرح. فمن المعروف أن  للمسرح آثارا  إيجابية متعددة فهو يساعد على تقوية الشخصية وتعزيز مهارات الإلقاء والتحدث أمام الجمهور، إضافة إلى خلق علاقات إجتماعية  والاشتراك  في تجارب مختلفة تعلم الفرد وتحفزه وتكسبه رؤية جديدة للحياة.
من الصعب أن يعيش الإنسان  حياته أسيرا  في سراب الخوف والقلق، لكن كل نفس جديد يحمل معه أملا جديدا ما دامت الإرادة والإصرار موجودان يصبح تحقيق المراد أمرا في منتهى السهولة. فالتغلب على الرهاب الاجتماعي يتطلب عزيمة كبيرة من قبل المريض فمفتاح العلاج يوجد بين يديه وأول خطوة هو الحد من تغذية المخاوف وتهويلها والاستسلام  لقيودها والسبيل إلى ذلك يتحقق بالتصالح مع الذات والتعرف على عوامل القلق والخوف في حياة الفرد. ولا ننسى أهمية مساعدة المقربين،  كالوسط العائلي في تسهيل رحلة العلاج. فالدعم النفسي والعاطفي يلعبان دورا هاما في التغلب على الاضطرابات النفسية وتدشين صفحة بيضاء ناصعة في حياة المريض.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دوامة الأعذار

الأعذار! تلك المتاهة التي يلجأ إليها المرء بمحض إرادته، يوم يقرر بقناعة تامة، أنه ضعيف وغير قادر على مجابهة نظرات المجتمع له، أو الحد من تطاول ألسنة الناس اللادغة التي تخنقه بكلمات السخرية والاستهزاء، بسبب تجربة فشل صادفت دربه أو التشفي من جرح علم حياته في لحظة من لحظات ماضيه. فالثغرات الموجودة في شخصيته وانعدام تقديره لذاته، جعلاه منكسرا أمام مجتمع انعدمت فيه الرحمة والرأفة بحال الغير. فيبقى ملاذه الوحيد هو الأعذار، التي يتخذ منها حصنا لحمايته من رماح كلام الناس القاتل، أو لعله يكون سبيلا لتليين قلوبهم وكسب تعاطفهم، حتى يقوموا بالتغاضي عن حاله، وتركه ودوامة أعذاره بسلام. لكن شعور السلام الداخلي هذا، لا يطول استشعاره ممن يحتمي تحت ظلال الأعذار، ففي بادئ الأمر ينعم بطمأنينة وسكينة تريح خاطره، لكن بعد ذلك تتحول هذه المشاعر إلى فرامل تحول بينه وبين تطوير ذاته، وخروجه من منطقة الراحة الوهمية.   فالحياة ليست جنة نعيم، بل هي لعبة مليئة بالمفاجآت والتحديات الصعبة التي لا يتحمل قساوتها أصحاب النفوس الهشة. فهي تتطلب قوة تحمل وحكمة تجعل من تجارب الماضي مهارة تزكي حاضر المرء ومست

أزمة ربيع العمر

          في عصرنا هذا أضحى العديد من الشباب في فترة العشرينات والثلاثينات من عمرهم يعانون من اضطرابات وأمراض نفسية متعددة. وذلك نتيجة الضغوطات التي يفرضها  المجتمع عبر سنه خطا معينا وجب على أي شاب إتباعه. ألا وهو ولوج جامعة عريقة يليه الحصول على شهادة عليا ومن ثم تحصيل وظيفة ذات راتب مهم يؤمن له معايير العيش الهني. وأخيرا الانتقال الى مرحلة تأسيس عش الزوجية الذهبي وإنجاب أطفال يترعرعون وفق نفس الأفكار ومنهجية العيش الرتيبة التي فرضها مجتمع لم يعطي أهمية لقيمة المرء وجوهره، مما أدى الى تدمير كيان عدد كبير من الشباب وتحطيم ثقته بنفسه وقدراته وذلك بسبب المقارنة بالغير وإهانة تفرده واختلافه الخلاق الذي يميزه عن محيطه علما أن أكثر ما يدمر الانسان هو التقليل من قدراته وتحقير قيمته ووضعه دائما محط مقارنة تقلل من شأنه وقدره. ولكي يتمكن المرء من تخطي مجموع الأفكار السلبية والبرمجة المسبقة التي ترسخت في ذهنه والمضي قدما في حياته لتحقيق ما يطمح إليه وجب عليه إدراك قدراته الخفية الكامنة بداخله. فكل إنسان يملك هبة دفينة بداخله تنتظر اللحظة التي يتخذ فيها القرار لإيقاظها والوعي لأهميتها و